صدرت أخيراً ترجمة الكتاب الذي انتظرته طويلا, "نظام التفاهة" تأليف آلان دونو أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبيك الكندية. وقد كنت حريصا في مشروع مائة مؤلف وكتاب على أن أتابع كل ماهو جديد في عالم النشر والتأليف وأضيف أحد المؤلفين وأحد كتبه المميزة التي قرأتها الى القائمة. ولكن مؤلفات آلان دونو باللغة الفرنسية التي لا أتقنها. وقد أعجبتني فكرته حين سمعت به أول مرة حيث نشر وصدرت طبعته الأولى سنة 2015 وتم ترجمته الى اللغة العربية سنة 2020. وقد قرأت أن هناك ترجمة باللغة الإنجليزية للكتاب وإن كنت لم أعثر عليها ولذلك اقتضى التنويه.
آثار آلان دونو الكثير من الجدل في كندا وهي أحد البلدان التي تتمتع بتقاليد راسخة من إحترام حرية الرأي والتعبير. ولكن تلك التقاليد الراسخة والضاربة في الجذور لم تمنع شركات التعدين الكندية من مقاضاته بسبب كتاب "Noir Canada: Pillage, corruption et criminalité en - كندا السوداء: النهب والفساد والإجرام في أفريقيا," والذي انتقد فيه شركات التعدين الكندية وممارساتها في القارة السمراء. كما أن آلان دونو قد أثار الجدل حوله بسبب كتاب آخر قام بتأليفه, "Canada: A New Tax Haven," ويتحدث فيه عن العلاقة بين رجال أعمال وأثرياء كنديين والملاذات الضريبية المختلفة خصوصا في الجزر الكاريبية وجزر العذراء البريطانية. وقد قام الكاتب بالتلميح أنه بسبب تلك العلاقة, تحولت كندا الى ملاذ ضريبي حيث يقوم رجال أعمال بفتح حسابات بنكية في الملاذات الضريبية وتسجيل شركاتهم هناك بدون مسائلة أو محاسبة من الحكومة الكندية.
كتاب "نظام التفاهة" ليس أقل جدلية من مؤلفات آلان دونو السابقة لأن المؤلف هو أكثر قدرة على الجدال وتقديم الحجج العقلية والمنطقية بسبب منصبه الأكاديمي وتخصصه في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع. فكرة الكتاب بإختصار أننا نعيش عصرا نشهد فيه على طوفان من التفاهة والسطحية حيث نجح أولئك التافهين في الوصول الى مفاصل الحكم والسياسة وكافة المؤسسات التعليمية والإقتصادية وأصبحوا هم حزب الأغلبية حيث يحاولون إقصاء خصومهم بشتى الطرق. هناك صعود غريب لقواعد تتصف بالرداءة والانحطاط: تفضيل الكم على النوع, إهمال معايير الجودة, بروز الأذواق الوضيعة, تهميش منظومة القيم وأهل الكفائة وتسخير كافة القدرات والإمكانيات من أجل خدمة السوق تحت شعارات مثل حرية الأسواق و شعار دعه يعمل, دعه يمر.
قرأت الكتاب خلال فترة زمنية قياسية وعلى الرغم من صعوبة فهم بعض المصطلحات والمفاهيم, ولكن مالفت نظري هو تناوله بالنقد الحاد مستوى التفاهة الذي وصل إليه النظام التعليمي حتى في الدول الغربية التي تم تسخيره بكامله لخدمة الشركات حيث تحولت الجامعات الى أداة تجارية في خدمة اقتصاد السوق دون أي إعتبارات أكاديمية أو أخلاقية. ولأنني أعتبر أن النظام التعليمي السليم هو حجر أساس في بناء مجتمع صحي ولأن الكاتب مواطن في إحدى دول الغرب التي تتفاخر بعراقة نظامها التعليمي, فقد إخترت في ختام الموضوع أن أتناول بإختصار بعض ما جاء في كتاب "نظام التفاهة" عن التعليم والمؤسسات التعليمية الجامعية خصوصا في كندا, بلد المؤلف.
يرى الكاتب أن الواقع بدأ بفرض نفسه على عالمنا. فعلى سبيل المثال, الجامعات أصبحت ممولة من الشركات التجارية التي تملي شروطها بسبب تقديمها المنح حيث يعمل الأساتذة والباحثون على المشاريع التي تخدم أغراض وأهداف تلك الشركات. أي أكاديمي يخالف وجهة النظر المهيمنة التي تفرضها تلك الشركات سوف تتم تنحيته أو مضايقته عبر حرمانه من المنح والتمويل لأبحاثه ودراساته. في كتاب "من دون علامة تجارية," تتفق الكاتبة والناشطة الكندية نعومي كلاين مع وجهة نظر المؤلف على الرغم من أن كتابها قد مضى على تأليفه أكثر من عشرين عاما. الجامعات كما ترى كلاين قد تحولت الى منابر دعاية مجانية للشركات وميدان لإختبار أساليب جديدة في الدعاية والتسويق حيث بدأت الجامعات في تركيز جهودها في ذلك المجال. وقد لاحظت نعومي كلاين خلال زيارتها الحرم الجامعي لعدد من الجامعات من أجل قيامها بإجراء الأبحاث لكتابها "من دون علامة تجارية," أن الطلاب قد بدأوا بالتذمر من ذلك الغزو التجاري للشركات الذي وصل الى الحمامات التي لاتخلو من الملصقات الدعائية. الجامعات تحولت الى مؤسسات تجارية وبدأت بالتخلي عن أهدافها التعليمية حيث تقوم باستثمار أموالها في مشاريع بدون أي شفافية حول كيفية إنفاق الأموال. بل إن جامعات في دول غربية مثل جامعة كيبيك في كندا, جامعتي أكسفورد وكامبريدج في بريطانيا وكولومبيا و ستانفورد في الولايات المتحدة, متهمة بالتهرب الضريبي وإيداع أموالها وفتح حسابات بنكية في ملاذات ضريبية منها جزر العذراء البريطانية.
الكتاب يقدم نظرة عميقة حول عالمنا الذي نعيش فيه وكيف سيطر عليه وتحكم في مفاصل صنع القرار فيه أشخاص سطحيين وتافهين يقومون بتنحية منافسيهم بشتى الطرق والوسائل الممكنة. لن تقرأ عن كتاب "نظام التفاهة" كثيرا في الصحف الغربية خصوصا الكندية التي تمنح تقييمات مرتفعة لكتب لا قيمة لها بينما تستبعد الكتب التي تحمل قيما فكرية وثقافية ومعرفية لأنها تخالف الواقع الذي نعيشه والذي نجح التافهون في فرضه. إن قوائم الكتب الأكثر مبيعا هي الأقل في قيمتها الفكرية كما ذكر الكاتب. وأنه دائما ما يمنحها فرصة, ولكن قليلا ما تخيب توقعاته بشأنها.
مع تمنياتي للجميع دوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment