الولايات المتحدة في السابق كانت تتميز بطبقة وسطى غنية ومزدهرة. ولكن هذه الطبقة الوسطة منذ نهاية عقد السبعينيات آخذة في الاضمحلال وسط اتساع التباين في توزيع الثروة لم تشهد البلاد مثله خلال الثمانين سنة السابقة. وقد إزداد ذلك التباين مع صعود المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية التي كان عرابها بروفيسور الاقتصاد في جامعة شيكاغو ميلتون فريدمان و انتخاب رونالد ريغان رئيسا للولايات المتحدة ومارغريت تاتشر رئيسة وزراء المملكة المتحدة.
يتحدث روبرت رايخ في كتابه "Saving Capitalism_ For the Many, Not the Few" عن اتساع الهوة الطبقية في الولايات المتحدة وازدياد اللامساواة بين الفقراء الذين يزدادون فقرا والأغنياء الذين يزدادون غنى. يقدّم رايخ وجهة نظر نقدية للوضع الراهن الاقتصادي والسياسي الذي لم يعد يخدم الأكثرية من الشعب الأمريكي بل قلة مسيطرة من رجال الأعمال ومدراء وأعضاء مجالس ادارة كبريات الشركات الاستثمارية والبنوك في شارع وول ستريت. السوق الحرَّة ليست الا خرافة, فمن يضع قواعدها وقوانينها؟ إنهم نفس الأشخاص الذين يملكون ناصية الأمور في العاصمة واشنطن, هم نفس الأشخاص الذين يسمح لهم بتجاوز قوانين وقواعد اللعبة على حساب صغار المستثمرين والشركات والعاجزين عن سداد أقساط المنزل أو السيارة الذي سوف يكون مصيرهم السجن. أما من هم أكبر من ان تسمح لهم الحكومة بالفشل, يستفيدون من الإعفاءات الضريبية وقوانين حماية الإفلاس وتقوم الحكومة بإنقاذهم ومكافأتهم على فشلهم وذلك على حساب دافعي الضرائب. السلطة السياسية تكون حيث تتركز الثروة ورأس المال. ويذكر رايخ في كتابه نقلا عن لويس برانديز(1856-1941), أحد قضاة المحكمة الأمريكية العليا:""يمكن أن تكون لدينا ديمقراطية أو يمكن أن يكون لدينا ثروة كبيرة في أيدي قلة قليلة ، لكن لا يمكننا الحصول على الاثنين."
إن عجز الرأسمالية وفشلها في منع الكوارث والأزمات الإقتصادية أو تقديم تحليل سليم وعقلاني لأسبابها قد أدى الى فقدان الثقة في النظام الرأسمالي. إن ذلك كان واضحا خلال أزمة الرهون العقارية 2008 في الولايات المتحدة التي كادت أن تؤدي إلى انهيار النظام الإقتصادي العالمي والفوضى التي تعقب ذلك. الجميع كان يبحث عن إجابات حتى لو كانت مؤلفات كارل ماركس خصوصا كتاب "رأس المال" الذي شهدت مبيعاته ازدهارا غير مسبوق. يتشارك روبرت رايخ في آرائه مع الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي مؤلف كتاب "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" الذي وبعد عشر سنين من العمل مع عدد من زملائه من خبراء الإقتصاد, أن التهرب الضريبي خصوصا الملاذات الضريبية والإعفاءات التي يحصل عليها الأثرياء وتراخي القوانين المالية والإقتصادية بذريعة تشجيع الاستثمار والمستثمرين هي أحد أسباب الأزمة التي تعاني منها الرأسمالية.
إن وجهة النظر التي يعرضها رايخ في كتابه حول أزمة الرأسمالية تعتبر إيجابية نوعا ما مقارنة بغيره ممن يتمنون زوال النظام الرأسمالي ويعتبرونه شرا بالمطلق. إصلاح النظام الرأسمالي وليس إلغائه هي الوسيلة التي يرى رايخ أنها الأنسب لمعالجة الوضع القائم الذي يقترب من مرحلة اللاعودة بخطى متسارعة. من وجهة نظر الكاتب, هناك خمس مبادئ أساسية للنظام الرأسمالي التي تدعم مفهوم السوق الحر(Free Market) حيث يعتبر ذلك هو جوهر النظام الرأسمالي. المبادئ الخمسة هي: الملكية(Property), الاحتكارات(Monopoly), العقود(Contract), الإفلاس(Bankruptcy) وسيادة القانون(Enforcement). وفي كتابه, يتحدث رايخ بالتفصيل عن كل مبدأ من تلك المبادئ الخمسة. ولكن الأهم أن رايخ يتحدث عن الخطر الذي يهدد النظام الرأسمالي, ذلك الخطر الذي لا يفهمه أصحاب الثروات ورؤوس الأموال, أنه عندما تتوقف الرأسمالية عن تحقيق المكاسب للأغلبية, فإنها سوف تتوقف عندئذ عن تحقيق المكاسب للجميع. فعندما تشعر تلك الأغلبية بخيبة الأمل وأن النظام غير عادل وأن جهودهم الشاقة لا تؤتي ثمارها, ينتهي المطاف بالجميع الى الخسارة, وتنتشر الظواهر السلبية مثل الغش, الخداع , عمليات الاحتيال, السرقة وفقدان الثقة. ويقترح المؤلف في كتابه مجموعة من الإصلاحات لإنقاذ الرأسمالية منها تقليص فترة الإمتياز الحصري لبراءة الاختراع وحقوق النشر والتوزيع, تعديل القوانين التي تجعل الشركات تجبر أصحاب الإمتياز على التحكيم القسري وسحب حقوق امتيازهم لأسباب ثانوية, رفع الحد الأدني للأجور ليعادل متوسط الأجر ويناسب مستوى التضخم, حرية الانضمام الى النقابات أو تشكيل نقابات, وتعديل قوانين مكافآت وامتيازات مدراء الشركات الكبرى وأعضاء مجلس إدارتها.
روبرت رايخ ليس شخصا عاديا بل هو أستاذ جامعي أمريكي وسياسي عضو في الحزب الديمقراطي وشغل عدة مناصب حكومية مرموقة منها منصب وزير العمل خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس بيل كلينتون. كما أنه قام بالتدريس في عدة جامعات أمريكية مرموقة منها جامعة هارفارد, جامعة كاليفورنيا بيركلي وجامعة براندايس. ولذلك فإن كتاب "إنقاذ الرأسمالية, من أجل الأغلبية وليس الأقلية" قد لقي صدى واسعا بسبب خلفية المؤلف الأكاديمية وارائه في كتبه السابقة والمواضيع التي ينشرها في عدد من الصحف الأمريكية. كما أن الكتاب قد تحول الى فيلم وثائقي بنفس العنوان تم عرضه على شبكة نيتفلكس للأفلام وتلقى عددا كبيرا من المشاهدات.
مع تمنياتي للجميع دوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment