بدأت قراءة أول صفحة من الكتاب ولم أتركه من يدي حتى إنتهيت من آخر صفحاته. كانت تلك تجربة مميزة خصوصا أنَّ كتاب "غرق الحضارات" كان أول كتاب من تأليف أمين معلوف أقوم بقرائته. الكاتب أمين معلوف فاز بعدد من جوائز الكتابة العربية والعالمية منها جائزة غونكور(1993) عن روايته صخرة طانيوس, جائزة الأدب لمنطقة البحر الأبيض المتوسط(2004) عن رواية "بدايات," جائزة أمير أستورياس(2010) عن مجمل أعماله الأدبية وجائزة الشيخ زايد للكتاب(2016) بوصفه شخصية العام الثقافية. رغم أنه ولد لأسرة لبنانية إلا أنه هاجر الى فرنسا ويكتب مؤلفاته باللغة الفرنسية حيث تمت ترجمتها الى خمسين لغة.
تعرض كتاب أمين معلوف "غرق الحضارات" إلى الكثير من النقد فور صدوره بسبب تعرضه الى المرحلة الناصرية وأسباب تأخر وتخلف الوطن العربي وهي خطوط حمراء لدى بعضهم من الذين لديهم نوستالجيا الماضي. إن تقديس الأشخاص وتأسيس طقوس عبادة الشخصية وهي مشكلة مزمنة يعاني منها الكتاب والمثقفون والإعلاميون العرب وحتى في دول غربية. كان معلوف مهتما بأربعة تواريخ إعتبرها مركزية في كتابه: سنة النكبة(1948), سنة النكسة(1967), الحظر النفطي(1973) وبداية عصر حكم المحافظين في الولايات المتحدة وبريطانيا(1979). ولكن سنة 1967 هي الأهم لأنها منعطف حاسم في تاريخ هذه المنطقة[الوطن العربي] بما لها من تبعات مستدامة. نطلق عليها في الإعلام العربي نكسة حزيران بينما يطلق عليها في دولة الإحتلال الصهيوني حرب الأيام الستة, الرب في التوراة خلق الكون في ستة أيام وجيش دولة الإحتلال إنتصر على 3 دول عربية في ستة أيام. وقد قارن أمين معلوف بين الهزيمة التي تعرض لها العرب سنة 1967 والهزيمة التي تعرضت لها فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية و الهجوم الياباني المفاجئ على ميناء بيرل هاربر وإعطاب وتدمير عدد كبير من سفن البحرية الأمريكية. الفرنسيون والأمريكيون تجاوزا تلك الهزائم و استعادوا الثقة بأنفسهم ونجحوا في المضي قدما بينما تاريخ النهضة العربية توقف عند سنة 1967.
هناك نقطة أخرى تعرض بسببها أمين معلوف الى النقد الحاد وهي حديثه عن تأثير أموال البترودولار التي تدفقت على دول مثل السعودية سببها ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة التي تلت الحظر النفطي المفروض على الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية بسبب تقديمها الدعم الى دولة الكيان الصهيوني خلال حرب رمضان 1973. إن تدفق تلك الأموال قد أدى الى تراجع الدور الذي تلعبه دول مثل مصر على الساحة الإقليمية والدولية الى صالح دول مثل السعودية. البترودولار جلب عدم الاستقرار ليس فقط الى المنطقة العربية والعالم حيث أدى ارتفاع أسعار النفط الى تغيرات جيوسياسية في عدة دول بشكل متزامن خصوصا بروز زعامات محافظة مثل مارغريت تاتشر(1979) و رونالد ريغان(1980) وبداية انتشار المبادئ النيوليبرالية حيث أصبحت هي المدرسة الاقتصادية المهيمنة بعد أن كانت المدرسة الاقتصادية الكينزية هي التي فرضت نفسها خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية اتفاقية بريتون وودز.
يجب أن نتناول تحليلات أمين معلوف لواقعنا المعاصر باهتمام بسبب سمعة الكاتب ومعرفته بالتحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة العربية حيث عاصر الكثير من الأحداث. ورغم النقد الحاد الذي تم توجيهه الى أمين معلوف وكتابه "غرق الحضارات," إلا أنه لايمكن تحييد وجهة نظر شخصية بحجم وتأثير أمين معلوف واتهامه بأنه يتبع كليشيهات تقليدية بهدف إرضاء الغرب في تحليله ونقده للحقبة الناصرية. إن ذلك يشبه تكميم الأفواه وهو أمر ليس له مكان في المجتمعات المتحضرة في القرن الواحد والعشرين. الحقبة الناصرية لها إيجابياتها وسلبياتها. فقد ترك الرئيس المصري جمال عبد الناصر بصمته في دول العالم العربي والإسلامي التي لن يمحوها الزمن حتى بعد مرور عدة أجيال ووفاة جميع من عاصروا تلك الحقبة وكانوا شهود عيان على احداثها. الإختلاف في الحديث عن جمال عبد الناصر وفترة حكمه هو الفرق بين من ينظر لنصف الكأس الممتلئ أو نصف الكأس الفارغ لا أكثر ولا أقل وذلك رأي شخصي.
الكتاب اكثر من رائع وانصح بقرائته فهو يسجل نظرة غير تقليدية لأحداث مر بها عالمنا العربي والإسلامي من شخص شاركنا بتجربة أكثر من 30 سنة في مجال الصحافة والكتابة والعمل الأدبي.
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment