يشرح مارتن ميرديث الكاتب والصحفي البريطاني في كتاب "مصير إفريقيا: تاريخ القارة منذ الاستقلال" بطريقته الكلاسيكية تاريخ القارة الإفريقية من الثورة الجزائرية ضد الفرنسيين, الحرب الأهلية في زيمبابوي وسيراليون الى نيلسون مانديلا ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا مع التركيز على الأحداث والشخصيات الرئيسية في عهد الإستقلال والمشاكل الرئيسية التي واجهت الدول الإفريقية المستقلة, الجدل حول المساعدات الدولية و دور الصين المتزايد ونفوذها في بلدان القارة.
كانت القارة الإفريقية خلال الفترة التي سبقت مرحلة الاستعمار الأوروبي مزدهرة اقتصاديا وسياسيا حيث يمكن ملاحظة أكثر من ١٠ آلاف كيان سياسي في مختلف انحاء القارة التي رسم حدودها المستعمر الأوروبي في مؤتمرات عُقِدَت في لندن, باريس, برلين وعواصم أوروبية أخرى. دولة الكونغو(زائير) على سبيل المثال كانت مقسمة الى ٦٠٠٠ منطقة نفوذ يسيطر على كل منها زعيم قبلي أو عشائري. الحدود الحالية التي تعرف بدولة نيجيريا يعيش فيها ٢٥٠ قومية وقبيلة عرقية منها ثلاثة عرقيات رئيسية. إنَّ جميع بلدان القارة الإفريقية بلا إستثناء هي دول مستحدثة لم تكن موجودة خلال الفترة التي سبقت مرحلة الإستعمار الأوروبي.
هناك بعض الممالك التي تم الحفاظ عليها كما هي وبعضها الآخر كما ذكرت تم بعثرتها بطريقة عشوائية حتى لم يبقى لها أي أثر. فرنسا حافظت على نظام الحكم في مستعمراتها في تونس والمغرب ولكن ليس الجزائر, بريطانيا حافظت على أسرة محمد علي الحاكمة في مصر وهم من أصول ألبانية كانوا يعملون مرتزقة في الجيوش العثمانية. مملكة (Asante) في منطقة الساحل الذهبي أو غانا و (Loziland) في روديسيا الشمالية أو زامبيا تم ضمها الى بعضها في وحدات إدارية جديدة تحت مسمى مستعمرة أو دولة. ممالك أخرى مثل (Buganda) و (Bunyoro) تم ضمها في دولة واحدة هي أوغندا رغم حالة العداء التاريخية بينها. الحد الفاصل بين منطقة الساحل والمناطق الداخلية التي يغلب عليها المناخ الإستوائي تم تأسيس دول مثل السودان, تشاد ونيجيريا حيث جمعت تلك الدول المسلمين, المسيحيين, الوثنيين, والقبائل من رعاة الماشية أو تلك التي تمتهن الزراعة رغم حالة العداء بينها.
إنَّ بداية التواجد الإستعماري الأوروبي في القارة الإفريقية كان مقتصرا على المناطق الساحلية عبارة عن موانئ صغيرة مهمتها الرئيسية هي محطة إستراحة, صيانة وتموين السفن ولم يكن أي اهتمام فعلي بالتوسع في الداخل الإفريقي. الإهتمام الحقيقي كانت بدايته خلال الفترة التي كان يحكم فيها الملك منسي الأول في إمبراطورية كانت تسيطر على الدولة التي تعرف اليوم (مالي) ومساحات من بلدان صحراء القارة الإفريقية. الملك منسي الأول كان ثريا حيث يسوف بمعايير هذه الأيام بأن ثروته تزيد عن ٤٠٠ مليار دولار ومصدرها مناجم الذهب في مالي. رحلة الحج التي قام بها الملك منسى موسى الى مكة أدت الى إثارة فضول الدول الاستعمارية خصوصا البرتغال وإسبانيا في ثروات الداخل الإفريقي والتي كانت بالنسبة إليهم مجرد أساطير. الملك منسي الأول أنفق خلال رحلة الحج في البلدان التي مرَّت بها قافلته من الذهب مما كانت نتيجته إرتفاع الأسعار(تضخم) استمر عشرة سنين.
الدول الإستعمارية تحرَّكت فورا من معاقلها الساحلية من أجل تنفيذ ماتم الإتفاق عليه من تقسيم القارة الإفريقية من خلال المعاهدات أو القوة المسلحة ولكن الأمر لم يكن بتلك السهولة. فرنسا كانت تسيطر على مساحة ٣.٧٥ مليون ميل مربع وبريطانيا ٢ مليون ميل مربع. ملك مملكة (Basuto) في جنوب إفريقيا ويدعي Moshoeshoe سارع الى توقيع اتفاقية حماية مع بريطانيا العظمى وأرسل رسالة الى الملكة فيكتوريا وصف نفسه و شعبه بأنهم مثل الذباب في حضرة الملكة العظيمة. الزعماء القبليين في منطقة Tswana التي تقع في Bechuanaland(بوتسوانا) سارعوا الى إرسالة رسالة مماثلة الى الملكة فيكتوريا من أجل التوقيع على معاهدة حماية.
كانت هناك بعض المناطق التي لم تخضع بسهولة كما خضعت خلافة سوكوتو الإسلامية التي توصلت الى إتفاق مع قوة بريطانية تم إرسالها من أجل ضم سوكوتو الى المنطقة الشمالية من نيجيريا. القوات البريطانية نجحت في احتلال Kumasi وهي عاصمة مملكة قوية تقع في جنوب غانا وتدعى Asante ولكنها تعرضت الى حصار لمدة ٤ أشهر حتى وصلت قوات إضافية نجحت في إخماد التمرد. Samori Ture مؤسس إمبراطورية Mandingo القوية في جنوب إفريقيا استمر في مقاومة الإحتلال الفرنسي ثمانية سنين. شعوب Ndebele و Shona في روديسيا(زيمبابوي) قاتلوا المستوطنين البيض بشراسة عدة سنين. البريطانيون لم يتمكنوا من إخضاع مناطق من كينيا يسكنها شعب Nandi حتى أرسلوا ستة حملات عسكرية كانت تتعرض الى الهزيمة مرة تلو الأخرى. ألمانيا إستخدمت أقسى و أبشع الأساليب في شرق إفريقيا(تنجانيقا) وجنوب غرب إفريقيا في ناميبيا حيث أبادوا خلال الفترة (١٩٠٤-١٩٠٨) مايزيد عن ثلاثة أرباع السكان الأصليين من قوميات Herero و Nama. البرتغاليون لم يكونوا أفضل حظا في أنغولا حيث تعرضوا الى مقاومة عنيفة من زعيم تحالف قبلي يدعى Mandume كان يقود قوات من ٤٠ ألف مقاتل.
الزعماء الأفارقة الذين كانوا يقاومون ويرفضون توقيع معاهدات الحماية كانوا إما يقتلون في أثناء المعارك أو يلقى القبض عليهم ويتم إعدامهم أو يتم إرسالهم الى المنفى. Samori Ture مؤسس إمبراطورية Mandingo القوية في جنوب إفريقيا توفي في المنفى بعد سنتين من القبض عليه. ملك مملكة Asantehene ويدعى Agyeman Prempeh توفي بعد أن أمضى في المنفى ثلاثين عاما. Lobengula زعيم قبيلة Ndebele في زيمبابوي وشمال شرق جنوب إفريقيا قتل أثناء أحد المعارك, زعماء قبائل الزولو في جنوب إفريقيا تعرضوا الى النفي أو قتلوا أثناء المعارك ولم تبقي بريطانيا على أحد منهم.
ولكن الأطماع الاستعمارية للدول الغربية لم تتوقف على حدود المناطق والممالك الإفريقية بل حتى المستوطنين البوير(ذوي البشرة البيضاء) الذين نجحوا في تأسيس إمارتين مستقلتين في جنوب إفريقيا هما إمارة الترانسفال والإمارة البرتقالية الحرَّة(The Orange Free State) تعرضوا الى القوة العسكرية البريطانية وثلاثة سنين من الحروب والحملات العسكرية التي شارك فيها نصف مليون جندي بريطاني. بريطانيا نجحت في النهاية في ضمهما الى إمبراطوريتها الواسعة ولكن الحملات العسكرية البريطانية والمجازر التي تم ارتكابها بقيت في ذاكرة المستعمرين البيض في إفريقيا(Afrikaners) والذي كان نسبة كبيرة منهم من أصول هولندية وفرنسية. القوات البريطانية التي واجهت في جنوب إفريقيا حرب العصابات إستخدمت سياسة الأرض المحروقة حيث تم تدمير قرى كاملة وتسويتها بالأرض وذبح جميع قطعان الماشية وتدمير المزروعات وترحيل السكان البوير الى معسكرات اعتقال جماعية لا تتوفر فيها أدنى الظروف الإنسانية مما أدى الى وفاة أكثر من ٢٦ ألف من المرض والجوع أغلبهم تحت سن ١٦ عاما.
إنَّ أكثر ما يميز حرب البوير الأولى والثانية هي أنها كانت ضد المستوطنين من ذوي البشرة البيضاء ومن أصول أوروبية وليس ضد السكان الأصليين. كما أن معسكرات الإعتقال الجماعي ظهرت لأول مرة خلال تلك الحرب وضحاياها هم من ذوي البشرة البيضاء وليس اليهود ومن أسسها بريطانيا وليس ألمانيا النازية. الذهب كان هو الهدف الذي كانت تسعى اليه بريطانيا في جنوب إفريقيا والتي كانت خلال فترة زمنية ما هي الدولة الأولى في العالم في تعدين وإنتاج الذهب.
الكتاب يغطي الفترة الزمنية (١٩٥٠-٢٠١٠) ويعطي تفاصيل دقيقة عن تاريخ بلدان القارة الإفريقية وحركات الإستقلال وقادة التحرير و مصير بلدان القارة بعد أن إستقلت أو هكذا كان يعتقد المواطنون المتحمسون الذي رسمته حدودهم دول استعمارية في دول وكيانات سياسية ليس بينها رابط مشترك. ولكن تحذير لكل من يقرأ الكتاب أنه سوف يصاب بالإكتئاب من الصورة السلبية التي ينقلها الكاتب وهي والتي إن كانت حقيقية أو واقعية, إلا أنه ليس فيها حتى نافذة صغيرة في نهاية النفق المظلم. حروب أهلية, انقلابات دموية, مجازر إبادة جماعية وتطهير عرقي, شركات نفط وتعدين تبحث عن الثروات بين أشلاء الضحايا دون أي اعتبارات إنسانية او أخلاقية.
مع تمنياتي للجميع دوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment