يوصف كتاب "الربيع الصامت" الذي قامت بتأليفه عالمة الأحياء البحرية الأمريكية راشيل كارسون بأنه الكتاب الشرارة, وصف يطلق على كتب أحدثت تأثيرا تجاوز حدود بلد المؤلف وأدى الى تغيرات جذرية تناولت قضية من القضايا على المستوى العالمي. وفي الحقيقة, هناك عدد قليل من الكتب التي يمكن أن يطلق عليها ذلك الوصف حيث تتمحور أغلبها حول مواضيع تتعلق بالبيئة والصحة العامة, كتاب "الربيع الصامت" هو أحد أهم تلك الكتب. المؤلفة راشيل كارسون كانت السبب من خلال نشرها الكتاب في ولادة الحركة البيئية المعاصرة, حركة تهدف إلى حماية البيئة من التلوث والإندثار. إن كتابات وآراء راشيل كارسون كانت ومازالت إنجيل الناشطين البيئيين ومنظمات الدفاع عن البيئة. نسخة الكتاب التي بحوزتي صدرت سنة ٢٠١٢م بمناسبة مرور ٥٠ عاما على تأليف الكتاب وكتبت مقدمتها المؤرخة والمؤلفة الأمريكية ليندا لير(Linda Lear). بعد كل تلك السنين, مازال لكتاب "الربيع الصامت" نفس التأثير المدوي لدى صدوره أول مرَّة.
بداية, أعتبر نفسي قارئا انتقائيا, وقد ألقي بكتاب ما بعيدا على أحد الأرفف لأنه مقدمة الكتاب لم تعجبني أو شعرت بأن الكتاب قد يكون مملا وأن قرائته مضيعة للوقت. في الحقيقة, كتاب "الربيع الصامت" كان أحد تلك الكتب. ربما لم أرى أي فائدة من قراءة كتاب يعود بالزمن أكثر من خمسين سنة الى الوراء أو أنني ندمت على شرائه, لا يهم. ولكنني مع مرور الوقت, أحسست بشعور غريب تجاه السبب الذي دفع راشيل كارسون الى أن تبذل كل تلك الجهود لتأليف الكتاب وهي تصارع المرض العضال الذي قضت بسببه نحبها سنة ١٩٦٤م. وقد يكون ما أحسست به نوع من الفضول الذي يقود الى أمور إيجابية وعظيمة تحدث تأثيرا في حياة الشخص, ولذلك فقد قرأت الكتاب حتى نهايته حيث أجاب على الكثير من تساؤلاتي حول واجباتنا سكان كوكب الأرض في الحفاظ عليه وعلى بيئته وحمايته من التأثيرات السلبية لنمط وأسلوب حياتنا المعاصر.
يتألف الكتاب من مقدمة وسبعة عشرة فصلا حيث تتحدث الكاتبة بالتفصيل عن الآثار المدمرة لإستخدام المبيدات الحشرية والزراعية على البيئة وعلى حياتنا كأفراد. وفي الكتاب, قامت كارسون بالتحذير من أن التوسع العشوائي في استخدام تلك المبيدات وبدون أي دراسات مسبقة تحدد الأضرار والعواقب سوف يؤدي الى تلوُّث مصادر غذاء الإنسان والحيوان حيث أن المواد الكيميائية التي تحتويها تلك المبيدات تنتقل عبر السلسلة الغذائية للكائنات الحية, وباعتبار أن الإنسان يقع على قمة السلسلة الغذائية, فهو أكثر الكائنات المفترسة تأثرا بتلك بتلك المبيدات والمواد الكيميائية التي تحتويها. إن صناعة المبيدات الحشرية تعود في تاريخها المعاصر إلى الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى حيث تمت إعادة توجيه الأبحاث المتعلقة بالسموم والمواد الكيميائية نحو القطاع الزراعي بدلا من العسكري, العلماء الألمان نجحوا في اكتشاف مجموعة من المبيدات تعرف بالاسم العلمي(Organophosphorus) أثناء إجراء تجاربهم على غاز الأعصاب. إن تلك المجموعة من المركبات عالية السمية مازالت شائعة الاستخدام على الرغم من الحقائق الواضحة حول ضررها على البيئة وعلى الإنسان والحيوان.
مادة دي دي تي(DDT) على رأس قائمة المواد الكيميائية التي تحدثت عنها كارسون حيث أنها أول من لفت الإنتباه الى ضررها وأثارها السلبية على الجهاز العصبي والخصوبة عند الإنسان والحيوان. فقد وجدت آثار لتلك المادة السمية في كبد الطيور والأسماك وحليب الأمهات. كما أن مادة دي دي تي تعتبر على قائمة المواد التي يؤدي التعرض لها إلى إحتمال الإصابة بمرض السرطان. دي دي تي(DDT) هو عبارة عن مركب كيميائي عضوي يحتوي على مادة الكلور ويمثل مجموعة من المبيدات تعرف بإسم (Chlorinated Hydrocarbon), ويطلق عليه بالعربية الإسم العلمي (ثنائي كلورو ثنائي فينيل ثلاثي كلورو إيثان). مادة دي دي تي هي مادة بلورية عديمة اللون والطعم والرائحة وغير قابل للذوبان في الماء. أوثمار زيدلر، وهو طالب دراسات عليا في جامعة ستراسبورغ الألمانية إكتشف وصنَّع مركب دي دي تي لأول مرَّة سنة ١٨٧٤م عبر مزج مادتي هيدرات الكلورال والكلوروبنزين في وجود حامض الكبريتيك. ولقد تم حظر مادة دي دي تي في الولايات المتحدة إثر الضجة الإعلامية التي أحدثها كتاب "الربيع الصامت" والتي وصلت الى أعلى المستويات في الحكومة الأمريكية خصوصا البيت الأبيض حيث أمر الرئيس جون كينيدي لجنة علمية بفحص القضايا التي أثارها الكتاب. كما أن كارسون قد مثلت أمام الكونجرس وطالبت بتشكيل لجنة تعنى بتنظيم إستخدام المبيدات ومنها وعلى رأسها مادة تي تي دي, تلك اللجنة أصبحت تعرف اليوم بإسم "وكالة حماية البيئة."
اليوم, وفي عصر العولمة والرأسمالية حيث تحقيق الأرباح يأتي أولا, يتعرض التراث الذي تركته لنا راشيل كارسون للهجوم كما تعرضت في حياتها للهجوم والنقد الجارح والتشكيك حتى بسلامة قواها العقلية والتهديد برفع دعاوي قضائية. ولكن كاريسون التي كانت عالمة وخبيرة في مجال تخصصها, لم تهتم لكل ذلك فقد كانت تعرف مايتوجب عليها القيام به, حيث كان كتابها معدا بدقة ووفق منهج علمي وموثقا بعشرات الصفحات من الملاحظات والأدلة العلمية وشهادات الخبرة. بل أنها قدمت في الفصل الأخير من الكتاب والذي كان بعنوان "الطريق الآخر, The Other Road), الحلول البديلة والصديقة للبيئة لعمليات رش المبيدات الحشرية. أحد تلك الوسائل التي تم استخدامها بنجاح كبير مع حشرة (screw-worm fly) التي كانت تهدد الماشية و تعرف بالاسم العلمي (Cochliomyia hominivorax) كانت عملية إنتاج ذكور عقيمة وعدوانية تقوم بتلقيح بيض الإناث الذي سوف ينتج حشرات عقيمة بما يؤدي الى الانقراض التدريجي للحشرة. حشرة أخرى تمت مكافحتها بنجاح عبر أسلوب إنتاج ذكور عقيمة وعدوانية هي حشرة (tsetse fly) والتي تنتشر في عدة بلدان افريقية وتسبب مرض النوم القاتل والناموس الناقل لمرض الملاريا. وسيلة اخرى كانت عبر إنتاج مواد كيميائية تستهدف فصيلة معينة من الحشرات في تركيبتها ولا تؤثر على الكائنات الحية الأخرى.
كتاب راشيل كارسون "الربيع الصامت" هو كتاب قيِّم جدا ومفيد يثري معرفة القارئ بالكثير من المعلومات التي قد تكون جديدة بالنسبة اليه مقارنة بتاريخ طباعة الكتاب الذي يعود لأكثر من خمسين سنة. أنصح بشراء الكتاب وقراءته مع العلم أن مواقع بيع الكتب والمكتبات تتوفر على الكتاب الذي تم ترجمته إلى عدة لغات منها العربية.
مع تمنياتي للجميع دوام الصحة والعافية
النهاية
No comments:
Post a Comment